Feeds:
المقالات
التعليقات

Archive for 5 جويلية, 2013

بموتي، عرفتُ المعنى الحقيقي للخلاص.
لطالما كان قريباً، لكنني لم أترك له فرصةً ليلمسني، مع أنني عرفتُ دائماً مالذي يجب على القلب المتمرد فعله.

طوال هذا الوقت تركت نفسي كنهر يخاف أن يغفو فتُغيرَ الأرضُ مجراه، كشجرةٍ ارتعبت أن تُصنعَ منها يدُ الفأسِ التي تموتُ بها أختُها . كنتُ منجماً من الحنين السرِّي لجذوري التي لم أنسها يوماً.

أحسُّ بقلبي ينشطر نصفين ، أسمعُ الآنَ تمزقَ شرايين رأسي الصغيرة، لا شئ من أفكاري يتشبث بهذه الخلايا الدماغية، كلُّ أفكاري تريدُ الانعتاق.
يتلاشى الحسُّ رويداً رويداً، وآهٍ يا أيامي التي أتركها خلفي الآن دون ندم، فلطالما كنتُ خارجها، ولطالما كنتُ غريبة عن هذا العالم، لعلي كنتُ قرباناً قدمه أجدادي لآلهةٍ قديمةٍ أسطورية، أم لعل مساري الأزلي قادني إلى حياةٍ ليست لي، فلم تنسجم أقداري مع القلب المفتون بالجمال والفن والحرية.
ماذا كان بوسعي أن أفعل أكثر !
لقد غنيت وأحببت وكتبت وعانيت. قلتُ كلمتي حتى لو لم تسمعها إلا الريحُ المحملةُ برائحةِ أشجار البرتقال.

وآهٍ يا ميراثي من الأجنحة والهلاوس..
يا جسدَ الأرضِ المبتلِّ، يا منديلَ أمي الحريري، وخُصلةَ شعرها.
يا تُرابَ أبي، يا ندى العشب على قبر أختي ، يا ضِحكةَ صديقتي، يا يدَ حبيبي، ويا هذا الندب بين حاجبيه.
هذا أولُ كتابٍ كتبته، وهذه شجرةُ اللوز التي دفنتُ تحتها أسراري ، هذا طريقُ البيت الذي أضعتُهُ يوماً، و هذه الأصابعُ التي كَتَبَتْ على جبيني وعودَها الأزلية.
هذه رياحُ الجنوبِ الدافئة، هذا الغديرُ الذي طيرتُ فراشاتي عنده، هذا الضبابُ الخفيف يلفني كشالٍ على قمةِ الجبلِ الذي علمني كيف أعيش كالغِزلان.

هذا عطر جلدي، هذه شجرة ورد “الكاميليا” التي ذبلت عند نافذتي، هذه “أوين”، أولُ فرسٍ تأخذني للطيران، هذه “جيان” التي رسمها “مودلياني”، وهذه التي تمد إليَّ قصائدها، “فروخ فرخزاد”، وتلك الرصاصة التي قتل بها “لوركا”، هؤلاء أصدقائي المفتونون بوحدتهم.

هذا هو الخلاص..
كيف تأخرتُ كثيراً حتى أصلَ لدهشةٍ حقيقيةٍ تسحقُ كلَّ أفكارِ الحياةِ التافهة؟ كيف!
كيف تأخرتُ عن رعشةِ التجربةِ الحارقةِ في دمي، كيف فاتتني لذةُ الخوفِ من الغريب المجهول في الضفة الأخرى؟
ها أنا أخيراً أسمحُ لروحي أن تعلن رفضها، أن تتبعَ شوقها، وتتخذَ طريقها الذي اختارته، دون أن يمنعها حنينٌ أو تردد. ليس بعد أن قررتُ الرحيل، ليسَ بعد أن تأكدتُ بأني أشجعُ من أن أموت في سريري، أو حتى مصادفةً في حادثٍ بسبب عينين مجهولتين غابتا للحظه خلف فكرة ما.

هذا هو الخلاص
كم  تخيلت دوماً أن أخلق بنفسي لحظةً بمثل هذه القوة، والجراءة .
عنفوان وشجاعة وتمرد تأتي كلها من جحيمي الداخلي الغافي في أعماقي منذ آلاف السنين، منذ أول حياةٍ وحتى آخر الحيوات التي مرت بها روحي، قبل أن تحتل جسدي ومازال عالقاً بها تراب المنفى ..
تلك الروح التي كانت مرةً سوراً للعذاب، ومرةً ورداً في الجنة. وتارةً روحاً لكائنٍ ملعون، وأخرى ملاكاً يغسل أقدامَ الأطفالِ عندما ُيولدون.
كانت مرةً روح الطريق المفعم بالآثارِ والفضولِ والأسرار، ومرةً هذا المدفن الذي يتشاركُ أوجاعَه الأراملُ والأيتام.  كانت تارةً روحَ الموسيقى يندفعُ جسدُها كالسهمِ تِجاه الأرضِ تَحرُثها بَقدميها، وتبذُر الفنِّ بَذرةً بَذرة،  ومرةً صُراخَ القلبِ المحطم، ومرةً رُوحَ الظلامِ التي التصقتْ  بها أعينُ أولئك الذين سكنتهم الوحدة والخوف، لم يحتملوا فكرة البقاء ولا فكرةَ الرحيل، فعلقوا في أبديةٍ يائسةٍ  ينتظرونَ خلاصهم.

لا يهمُ ماذا كنتُ أو أينَ أنا ! فلقد أصبح بمقدوري الآنَ أن أرى شَكليَ الحقيقي، وأسمعُ صوتيَ الذي كانَ لي في رحمِ أمي قبل أن يصيرَ لي صوتٌ جديدٌ في هذا العالم ..
 الآن ينكشفُ لي كُلُّ شئٍ على حقيقته.
هذا اللغز الذي أخذتُه معي وأنا أخرجُ للدنيا من ماءِ موطني الأول، وظلَّ يؤرقني طوال حياتي، كيفَ أحلّه؟!

ما قضيتُ الأيامَ كلَّها بحثاً عن إجابةٍ له؛ أراهُ الآنَ واضحاً أمامي.. بسيطاً وعارياً !!
تطابقت الصورةُ مع هلوساتي التي احتلتني دائماً، فها هو الريش ينبتُ على كتفيَّ جناحينِ، إذن هذه أنا؟!
لقد كنتُ في الأصل نواةً لطائرِ النار، وخُلقتُ كائناً آخر!
فكيف بالخطأ أتيتُ إلى دنياكم كإنسان ؟!
إذن هذا سرُّ عدم تكيفي مع الكائنات البشرية، و حُزني الوجودي الغامض، وسببُ كلِّ هذه المأساويةِ المتوحشةِ.
ومصدر تلك الكهرباء التي تلمس أعصابي المكشوفة، مولدة كل هذه الفوضى في دماغي، وذلك العذاب الجبار، وتلك النزعة لتدمير الذات.

هل هذه أوهامُ اللحظةِ الأخيرة؟
الآن أعرفُ، أني لستُ سوى  طينٍ جمعته يد القدر من تراب الحقول معجوناً بأغنيات السنابل و ماء الينابيع، ثم ولدتني رغبةُ امرأةٍ  جميلةٍ في عتمةِ ليلٍ ساحر، قبل ستة وثلاثين عاماً.
فليكن.. قد آن للطين أن يعودَ إلى أرضه.
هكذا يمنحني الموتُ خلاصي..
عيناهُ القاسيتان في عيني ، خدُّه الخشنُ يحتكُّ بعنفٍ وشهوةٍ مع خدي الناعم.
برودة شديدة أحسها تحت جلدي ، أتجمد قليلاً وذراعه تحيط بي، جسده الساخن يسحق آخر الأزهارِ في غابات عمري ، أشهق من أعماقي وأنفاسه الحارة الشبقة  تأخذ آخر أنفاسي .
كنتُ ميتةً تماماً و الموتُ يبلغُ نشوته،  ضَمَّني بعنفٍ لآخرِ مرة،  كعاشقٍ سادي،  ذراعاه تُفلتني بكل شراهة الحب الجبارة إلى هاويةٍ ما .. (المزيد…)

Read Full Post »